في كتابه المميز «الهشاشة النفسية» والذي يختلف عن غيره، طرح د. إسماعيل عرفة ذلك التساؤل الذي شغل العديد من الباحثين الساعين لرصد تلك الظاهرة المنتشرة في المجتمعات الحديثة، وسلط الضوء بشكل مباشر نحو جذور المشكلة بما يناسب طبيعة مجتمعاتنا العربية، ليتساءل: لماذا صرنا أضعف نفسيًّا؟ ولماذا تراجعت قدرة الأفراد على تحمل الضغوط النفسية وصعوبة مواجهة التحديات اليومية؟
يناقش الكاتب أسباب هذه الظاهرة، وتأثير الخطاب النفسي المعاصر، وكيف يمكن التغلب على هذه المشكلة بطريقة عملية. يعتمد الكتاب على دراسات علمية وتجارب واقعية، ويمثل أطروحة فكرية مميزة لهذه الإشكالية التي انتقلت إلى مجتمعاتنا، وزادت الوسائل الإعلامية المختلفة، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، من تأثيرها، مما يجعله مرجعًا هامًا لكل من يرغب في فهم طبيعة القوة والضعف النفسي في العصر الحديث.
يُعرف إسماعيل عرفة الهشاشة النفسية بأنها تضخيم المشاكل وكأنها كارثة وجودية، مما يؤدي إلى انخفاض قدرة الأفراد على تحمل المشكلات والصدمات الحياتية، وبالتالي الاستسلام بسرعة والشعور الدائم بالعجز والإحباط.
ويؤكد أن هذه الهشاشة ليست مجرد مشاعر عابرة، بل مشكلة حقيقية لها أسباب متعددة، منها التغيرات الثقافية، وطريقة التربية، والمفاهيم النفسية الحديثة التي قد تعزز الشعور بالضعف بدلًا من القوة. ويؤكد الكاتب أن الهشاشة تربية وليست طبيعة، وبالتالي فإن المرونة النفسية تنمو بالتدريج.
التربية المفرطة في الحماية
يؤكد الكاتب أن أسلوب التربية الذي يحمي الأطفال من كل أشكال الفشل أو الصعوبة يجعلهم غير قادرين على مواجهة التحديات مستقبلا. هذه التربية تمنعهم من تطوير آليات التكيف الضرورية للحياة، وتحرمهم من المسؤولية ومواجهة عواقب الأمور، وبدلًا من ذلك تغرس بداخلهم الاعتمادية، فتخلق فجوة كبيرة بين تصوراتهم وواقعهم. ويعد أحد نتائج تلك التربية حالة التفرد والتميز، التي تجعل الشخص يشعر بالاستحقاق المطلق، فتوقعاته من الآخرين دائمًا عالية ولا يتقبل منهم الرفض أو يلتفت لاحتياجاتهم.
الثقافة الحديثة وتعظيم المشاعر
تروج الثقافة الحديثة لفكرة أن المشاعر المؤلمة يجب أن تُعامل بحذر شديد، مما يؤدي إلى تهويل المشكلات العادية. كما أن التركيز المفرط على المشاعر الشخصية يؤدي إلى تضخيم الشعور بالضعف والخذلان. ومن يرى لنفسه حقوقًا مختلفة عن الآخرين ويدور في فلك الأنا يشعر بالإيذاء من بضع كلمات أو موقف بسيط تم فيه رفضه.
وربما يصل الأمر إلى أن يظهر الشخص ضعفه ليجذب تعاطف الآخرين، مما خلق حالة من الهوس بالطب النفسي حسب وصف الكاتب.
وأرجع الكاتب هذا الهوس إلى هروب البعض من البحث عن حلول لمشاكلهم، وإلى النظرة إلى النفس بالعجز، والاعتقاد بأن الطبيب وحده يملك الحل، والتعطش للحلول السحرية التي ستغير حياتنا للأفضل دون مجهود.
وسائل التواصل الاجتماعي
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في تعزيز الهشاشة النفسية، حيث تعزز المقارنات غير الواقعية، وتزيد من مشاعر عدم الرضا، وتعرض الأفراد لمستويات عالية من الانتقاد والضغط الاجتماعي. كما أنها بيئة خصبة للتشخيصات والتحليلات والإسقاطات من الأشخاص بناءً على مسلسلات أو قراءات فردية غير علمية، لكنها تلقى صدى كبيرًا من المتابعين، ومع التكرار تقررت.
الفراغ العاطفي
الجميع يبحث عن الحب والاحترام، ولكن مع وجود بعض التفكك الأسري وغياب تفهم احتياجات الشباب مجتمعيًّا وصعوبة الزواج، يتولد فراغ عاطفي ورغبة ملحة للدخول في أي علاقة تحت مسمى الحب. غياب تقدير الذات والشعور بعدم الكفاية وعدم استحقاق الحب يدفع الشخص للتلهف لسماع كلمات إطراء وتقدير من الآخرين، ويرى نفسه بعيونهم، ويستجدي مكانته بينهم، في حين أن كل ما يحتاجه هو تحقيق إنجازات حقيقية وتقدير ذاته بنفسه.
النزعة الفردية والعزلة الاجتماعية
إن الدعم الاجتماعي ضروري للصحة النفسية، لكن مع انتشار النزعة الفردية، أصبح الناس أكثر انعزالًا، مما يجعلهم أكثر عرضة للهشاشة النفسية عند مواجهة الأزمات. الأصدقاء والعائلة هم أفضل من يعطينا الدعم والحب، ولكن مع تسطيح العلاقات والميل للعزلة، يفقد الشخص قدرته على التواصل الصحي والعطاء المتبادل، خاصة وقت الأزمات، وبالتالي تقل صلابته في مواجهة المشاكل.
الفراغ الوجودي
يفقد الإنسان الهوية والمرجعية والأسس الواضحة التي يتكئ عليها، مما يولد فراغًا وجوديًّا إذ لا يعرف لما هو هنا وماذا عليه أن يفعل وكيف يفعل. ومع غياب البوصلة، ينهمك الشخص في تفاصيل الحياة والنقاشات والفلسفات، ولكي يجد بعض الطمأنينة ربما يلجأ للأطباء والاستشاريين.
يقول الكاتب إنه في حين أن الدين أعطانا إجابات على جميع التساؤلات، إلا أن المسلسلات ووسائل التواصل تصرفنا عن التفكير فيها، حيث يضبط الدين نظرة الإنسان بتأكيده أن ما نحن فيه مقدمة لحياة أخرى.
مخدر الشغف
تصدر خطاب التغيير لأجل التغيير، والترويج لمقولات مثل "افعل ما تحب"، أدى إلى حالة من الهوس بالشغف عند الشباب، بدلًا من التفكير الواقعي في احتياجاتهم الحقيقية. المطلوب هو تحقيق التوازن بين أربعة محاور: ما يحبونه (الشغف)، العمل كمصدر دخل فعلي، مهاراتهم وتطويرها، ورسالتهم في الحياة.
سرعة الاستسلام
يلاحظ الكاتب أن الأشخاص الهشين نفسيًا غالبًا ما يستسلمون بسرعة عند مواجهة أي تحدٍ، ويفضلون الانسحاب بدلاً من المحاولة.
الحساسية الزائدة
يصبح الأفراد المفرطون في الحساسية غير قادرين على تقبل النقد أو التعامل مع الخلافات البسيطة، مما يؤدي إلى توتر دائم في علاقاتهم الاجتماعية.
انتشار ثقافة الضحية
يشير الكاتب إلى أن بعض الأفراد يميلون إلى تبني عقلية الضحية، حيث يلقون باللوم على المجتمع أو الظروف بدلاً من تحمل المسؤولية عن حياتهم.
كما أن الجسم لديه قدرة عالية على التكيف مع درجات الحرارة المختلفة، فإنه يتكيف نفسيًّا مع المواقف والأزمات اليومية. كل ما نحتاجه هو الصبر واحترام عامل الوقت والاستفادة من دوائر الدعم. ويرى الكاتب أنه عند اللجوء إلى طبيب أو مختص، لا ينبغي أن يكون ذلك الخيار الأول. ومن الإرشادات التي قدمها:
عدم الاستسلام للحزن والانشغال بالأنشطة.
الأنس بالأهل والأصدقاء والاستمتاع بدوائر الدعم القريبة.
ملء الوقت بالعمل وتطوير المهارات.
مكاشفة النفس، وتقبلها، ومحاولة إصلاحها.
احترام عامل الوقت، ومعالجة المشاعر تدريجيًّا.
الالتزام بالفرائض والعبادات، وممارسة الرياضة والتنزه.
التعبير عن المشاعر مع شخص أمين ومتفهّم.
تقليل الاعتماد على الهاتف، والتركيز على الواقع والإنجازات الحقيقية.
يُعد كتاب «الهشاشة النفسية» مرجعًا هامًا لفهم مشكلة منتشرة في المجتمعات الحديثة. من خلال تحليل أسبابها وتأثيراتها، وتقديم حلول عملية، يوجه إسماعيل عرفة رسالة قوية إلى الأفراد بضرورة بناء القوة النفسية لمواجهة تحديات الحياة بدلًا من الاستسلام لها.
إن بناء المرونة النفسية ليس بالأمر المستحيل، لكنه يحتاج إلى وعي وممارسة مستمرة.